الاثنين، 29 يونيو 2009

لغة الصمت (قصة)

لماذا؟ لم تلك الندوة تحديدا؟ لم أحضر تلك الندوة منذ سنوات فلماذا اليوم؟ كان إحساسا أقوى مني لم أستطع تفسيره, منذ عشرة أيام و صوت بداخلي يناديني, منذ خمسة أعوام و الصوت يدفعني دفعا نحو قدر يبدو محتوما. عشرة أيام تنتابني خلالها مشاعر متباينة منذ أن أحضرت ذلك الكتاب الملعون موضوع الندوة , كتاب (أحلام المستغنامي) (فوضى الحواس), كتاب عشق غريب, كانت كلماته تستفزني و تداعبني, تنهرني و تتحداني , و أحيانا تستهزئ بي و تسخر مني, لأول مرة أجد كتابا يحدثني , نعم يحدثني ( هو رجل الوقت ليلا) (هو رجل الوقت عشقا) ( هو رجل الوقت عطرا) كانت الكلمات تغازلني و أنا الرجل الخجول رغم صولاتي النسائية الصادقة الكاذبة في آن واحد فكنت أحمر خجلا و أذوب عشقا, ( هو رجل المستحيلات) و كذلك أنا. وجدت نفسي مدفوعا بقوة خفية نحو حضور تلك الندوة التي تتطلب السفر إلى القاهرة و أنا رجل الموارد القليلة لكني قررت الحضور مهما كلفني الأمر , فقد كان موعدا يجب ألا أخلفه , مازلت أذكر أنها تقام في أول جمعة من الشهر, أثناء قراءتي للكتاب مررت برحلة عجيبة, أعدت النظر داخلي و حولي , أعدت النظر في كل حالاتي العشقية الماضية , دققت النظر فإذا بي أجدني عاشقا خائبا , لقد كنت دائما بين امرأتين إحداها تلقي بالشص في انتظار سمكة جائعة يغريها الطعم فتنقض عليه بلا وعي و لا رؤية فتفاجأ أنها سقطت في فخ اللامشاعر و الثانية امرأة أستعمل كل ما لدي من خبرات و مهارات لأجذبها نحوي فتقع هي في فخي هو صيد أيضا مع تحديد اسم الفريسة و عنوانها. قررت أن أمر خلال تلك الفترة برحلة من التطهر و أول ما فعلت أطلقت سراح داليا الفتاة الرقيقة الخدومة و المخلصة و التي اقتربت مني و رويدا رويدا سقطت في فخ الحب من طرف واحد, حقيقة لم يكن الأمر أبدا مسليا بالنسبة لي بل كانت ورطة دخلتها بوعي غير كامل و بعد انتهائي من (فوضى الحواس) تغير الأمر لدرجة أنني حاربت كي أطلق سراحها و نجحت و ما أن أمنت بعيدا عن العيون داخل سيارتي حتى سالت دموعي أو انفجرت , كان اغتسالا كاملا من تاريخ لا أفخر به و لا أقول أني غير مسئول عنه , بدا لي صوتا من داخلي يخبرني أني الآن و فقط الآن قد أصبحت إنسانا. في بداية أيامي العشرة شعرت أن الطبيب النفسي الذي تدار الندوة في مستشفاه يناديني و يريد أن يراني ذلك الطبيب الذي تحول تدريجيا منذ أن عرفته من طبيب إلى طبيب و أستاذ و من معالج إلى أب و معالج, ذلك الإحساس الذي تشعر به عرضا إذا كان والدك أو والدتك يشعران برغبة في رؤيتك فينتابك ذلك الشعور المغناطيسي الذي يجذبك إلى بيت أبويك فتفاجأ أن أحدهما أو كلاهما يريد أن يراك أو كانا يتحدثان عنك. بهذا الشعور المباغت بدأت رحلتي فاتصلت بالدكتور زاهر الطبيب المساعد لأخبره برغبتي تلك فأخبرني أنه كالعادة ستكون هناك ندوتان, علمية و سيقدمها الطبيب الأب بنفسه أما الندوة الأدبية فكتابها هو (فوضى الحواس) و لم أنبهر بأن الطبيب الأب سيقدم الندوة فقد كنت أعلم ........ كان داخلي يعلم. في هذه الأيام العشرة أحسست أنني لم أفكر أبدا قبلها كيف يقترب قطبي الحب أحدهما من الآخر ليحدث ذلك التفاعل الكيميائي العجيب, و هل هو تفاعل كيميائي فقط أم أنه فيزيائي كيميائي تدخل فيه الإشعاعات و الطاقة طرفا غير معلن أم أن يد الله فوق أيديهم, كنت دائما أنا الذي يذهب , يندفع , يتدحرج و ينحدر ليسقط أخيرا في زمن خطأ أو مكان خطأ أو عنوان خطأ , بدايات خاطئة تؤكدها النتائج الخاطئة دوما.
.............................
و تذكرتها , لقاءنا الأول كان لقاء عابرا في المستشفى بعد جلسة علاج جمعي حيث سألتها هل أنت أخصائية طب نفسي؟ و أساءت فهمي فردت بامتعاض: نعم و إلا فلم أنا هنا؟ فوجئت بأني أقابل امتعاضها بالصبر و أوضح أني أقصد بالسؤال أحصلت على الدراسات العليا أم ليس بعد؟ تغيرت كل ملامحها إلى نوع من الارتياح أثر في كل قسماتها فأضاءت نورا لا يراه أحد غيري, لم أفكر فيها ثانية رغم وجودي معها فقد كنت بصفة المريض و هي بصفة الطبيبة إلى أن جاء موعد طابور الجري لمسافات طويلة صباحا باكرا و حين عدنا كنت جالسا على السلم مستندا إلى درجاته حيث وقفت لتبادلني كلمات بسيطة عن انطباعي عن الجري خارج المستشفى و رددت بأدب و لكن عيناي كانتا تخفيان أكثر مما تبديان أو العكس.

هي امرأة الوقت صبحا هي امرأة النسيم عطرا
هي امرأة الموت خجلا هي امرأة الموت عشقا
من يومها كانت عيناها قد اخترقت شيئا بداخلي و زلزلتا كل شئ, لم تعد دنياي كما كانت و مع ذلك غفلت نفسي لكني لم أنسها يوما . خرجت من المستشفى بذكريات أغلبها سئ فيما عداها. مرت سنون و لم أرها ربما ثلاثة سنوات و طاب لي أن أذكرها أمام زاهر طبيبي المباشر الذي تحول مع الوقت إلى طبيب و أخ أو أخ و طبيب لست أدري, أبدى الرجل شيئا من الاستغراب أني مازلت أذكر اسمها و ابتسمت في نفسي فكيف لي أن أنساه.كان مزاجي يتحسن باستمرار و عرض علي الأخ الطبيب بأن أحضر الندوات و هكذا رأيتها للمرة الثالثة و لم يكن لي أن أفوت الفرصة دون أن أسلم عليها و قد فعلت, و فعلت النظرة فعلتها التي فعلت, لقد غيرت من مظهرها و من قصة شعرها , أصبحت تبدو أكثر نضجا و أكثر ثقة , أكثر تألقا و بريقا. كانت تقدم كتابا باسم هوس العمق للكاتب الألماني باتريك زوسكيند و كانت تقارن أعمال ذلك الكاتب و خاصة قصة العطر و في الواقع أن عطرها هو الذي كان يملأ المكان, عطرا لا يشم بالأنف و رغم ذلك تستطيع أن تستشعره إن كانت لديك الحاسة المناسبة . من يومها كانت الدنيا تتغير من حولي و من داخلي, أهو بفعل العلاج فقط أم هناك شيئا خفيا بجانبه لا أراه أو أخشى أن أراه فهو مخاطرة شديدة ... شديدة , موجعة ... موجعة و أنا رجل جبان , أخشى المغامرة و أخشى المخاطرة و أقولها للمرة الأولى في حياتي أنني أخشى الفقد قبل أن أخشى الحب , لا أتحمل الحرمان , الحرمان موجع لا أستطيع حتى تخيل مدى ألمه أو أن أستحضره , شئ مرعب حقا.
..........قمت بحجز تذكرة القطار و تأكدت أني ذاهب إلى الندوة و بدأت أفكاري تتركز أكثر و أكثر و حواسي تتفتح و تتفتح و ربما أصبحت نورانيا أو شئ كذلك. بدأت أتخيل و أسترسل في الخيال كيف سيكون شكلها و أي الأثواب ستلبسها و ما شكل قصة شعرها أما عقلي الواعي فكان يفكر إنها الفتاة الأولى .... نعم الأولى التي اقتربت مني بقرار منها , قرارا جريئا شجاعا موحيا, لقد رأتني ........... نعم رأتني أو أخيرا رأيت. ركبت القطار, (قطار الرحلة الأخيرة) و (المحطة الأخيرة) ليس لأنه لم يعد بالعمر بقية .... أو أني مجبر على النزول بل لأني و لأول مرة أجد محطة بكل حقيقة الحقيقة و بكل واقعها و بساطتها , إنها المحطة الأولى التي رأيتها وعيا و عشقا , هكذا اخترت أن يكون و كأني أنا الذي يخط قدره بيديه , أنا الذي يختار محطتي بكل إرادتي. كان القطار يسير مسرعا تلقاء القاهرة و كنت تارة أستعجله و تارة أستبطئه بين الأمل المفعم بالخوف و الرجاء المسكون بالإحباط, أسئلة طفولية قفزت في ذهني و كأني أداعب نفسي أتراها تذكرني؟ و كيف تنساني؟ أتراها ستأتي؟ و كيف تنسى موعدي؟ أتراه موعدا بيننا ؟ أم أنه خيالي؟ أثمة ما يربط بيننا؟ رابطة أقوى من كل رابطة عرفتها؟ رابطة أرقى من كل رابطة تخيلتها؟ قفز إلى إحساسي وقتها أني سأراها أقل وزنا قليلا منذ آخر مرة رأيتها, حقيقة كنت بين شك و شك , أخشى أن أصدق نفسي , أحقيقي ما أشعر به أم أن خيالي قد زاد وجدا حتى أنه قد بدأ يتخبط عشوائيا, لست أدري. هنا بدأت في استعجال رحلتي أنا الرجل المتعجل دائما, الثرثار كثيرا , المشتعل كجذوة اللهب. أثناء تداعيات أفكاري قررت أن أصمت ... نعم سأصمت من أجلها و لها, سأصمت تماما خلال الندوة لن أتكلم , سأرد المجاملات بكلمة أو كلمتين على الأكثر أما خلال المناقشات فلن أسأل و لن أعقب , لن أفعل شيئا سوى الصمت الجميل, الصمت بوعي, هكذا قررت , هكذا قدرت و هاأنذا أخط قدري بيدي ربما للمرة الثانية في حياتي, أنا رجل المستحيلات فلم لا أجرب مستحيلا آخر من أجلنا. وصلت إلى الندوة و صعدت بمصعد يصعد قلبي معه , بحثت بعيني فلم أجدها .... خيالات , أمراض, أوهام... لعنة الله و لكن سأصمت .. من أجلنا سأصمت , أربع ساعات من الصمت ليس كثيرا على تجربة جديدة , جلست و بدأت الندوة العلمية و لا أراها, أدور برأسي للخلف و للأمام و لا أراها , أيأس؟ .. إحباط؟ .. لا ستأتي أشعر بهذا داخلي تماما و لكن ربما كانت زيادة في الأوهام , فجأة أنظر ليدي اليسرى فأرى الدبلة الذهبية مضيئة بالكدر, لماذا لبست تلك الدبلة من حوالي شهرين و أنا الذي خلعها منذ ستة عشر سنة , أكنت أهرب من شئ أم الآن أهرب من شئ , مرة أخرى تنقذني (أحلام) سأدع مقود العشق يأخذني حيث يشاء..... سأصمت سأستمر في الصمت , لاحظت أن رأسي تومئ بإشارات تعني نعم و لا فأسكتها هي الأخرى , فليكن صمتا كاملا إذا حقيقيا إذا, و هي لا تأتي , تتابعت الندوة العلمية و انتهت و نجحت بالكاد في نصف المهمة, تكاد رأسي تنفجر, ألم و ألم و ألم و أمل و رجاء, هنا قفز داخلي إحساس أنها تعطلت و أنها في الطريق الآن و أنها ستقدم الندوة الأدبية هيهات أن أصدق وهمي بعد اليوم بل أخاف أن أصدق , أخاف ألا تأتي فيتضاعف ألمي و أنا عدو الألم , بل جبن لحد النذالة , أين أخلاق الفرسان و التي أدعيها إذن؟ أرأيت فارسا يخشى الألم إلى هذا الحد؟ ربما نعم. ألم و ألم و ألم و أبحث عن القهوة فلا أجد , إذا علي ركوب المصعد إلى الأسفل للبوفيه للحصول على قهوتي و ها أنا أتجه إلى المصعد لأجدها أمامي , أنحف قليلا و تعتذر عن التأخير حيث تعطلت في الطريق , تصعد بينما أهبط و بفرحة الطفل الذي وجد عنوانه بعد متاهة أيام أبادرها التحية .. كلمة أو كلمتين فترسل فرحة في نظرة و ابتسامة تشرق بعد طول غياب. ليست الفرحة الأولى فقد رأيتها في الندوة السابقة و كذبت نفسي أو بالأحرى خشيت أن أصدق , تصعد بينما أهبط فلا مجال للتراجع فقد كنت أمام المصعد كما أنني اخترت الصمت, أهبط و يهبط قلبي و يصعد, أنطلق إلى البوفيه, أستعجل الثواني, أطلب القهوة في عجالة, بدا واضحا أني على عجل بل في حالة هلع, أريد اللحاق بها, قهوتي يخطفها رجل قليل الذوق فكرت في إلغاء القهوة و لكن النادل بأدب جم يعتذر و يعد بفنجال آخر بمنتهى السرعة و لكنه يتأخر أو هكذا تخيلت لأصعد و قلبي يهبط عند قدمي, سأقول لها ... ماذا أقول؟ سأطلب أرقام هاتفها .... لكني اخترت الصمت .... لعنت الصمت كما لعنت الكلام .... أسيكون عندي الجرأة أن أطلب أرقام هاتفها؟ لابد و أن أفعل و لكني .... اخترت الصمت. ما أن وصلت القاعة حتى أجدها و قد جلست على الطاولة الرئيسية و عن يمينها طبيب سيستعرض الكتاب و عن يسارها ذلك المؤلف و القصصي الكبير الذي يبدو متواضعا طيبا, تلبس بلوز برتقالي معلنة أن الربيع قد وصل هذه المرة قد يكون وصل متأخرا, أو مبكرا قليلا هذا ما تمنيته, شعرها ينسدل خصلات رقيقة على جبهتها , لقد صارت فعلا أنحف من ذي قبل, البلوز يعلن عن أنوثة صريحة بسيطة و صادقة في نفس الوقت. بدأت في تقديم الندوة و كم أنا كاذب لقد كان تركيزي كله على يديها أولا رأيت اليمنى فوجدتها خالية ثم دققت في اليسرى و أنا الذي كان قد قرر أن يترك للحب مقوده!! و لكم كانت راحتي حينما وجدت يديها تعلنان عدم الارتباط , تبعد عني حوالي الخمسة أمتار, مجرد أنا من كافة أسلحتي و يدي مكبلتان بصمت اخترته و لكن بدأت رسالات غامضة من عيني لعينيها , رسالات من شئ صامت صادق لا أدري ماذا يسمى, أحيانا كنت أحاول أن أكبلها بنظرة اشتهاء أو إغواء فكنت أتراجع من فوري فأنا أقسمت لنفسي ألا أستعمل أسلحتي بعد اليوم , فأرتبك أكثر و أكثر , بدأت فرائصي في الارتعاد فلقد أحسست بقدومها قبل أن تأتي و أحسست بأني سأقابل زاهر و كنت واثقا أنه سيحضر رغم أني لم أقابله في الندوات السابقة أبدا فقد كان يفضل الاستمتاع بأجازته كما أني فوجئت أن أبي الطبيب كان قد امتنع عن حضور الندوات لمدة ستة أشهر و هذا يعني أن ذلك اليوم كان احتفالا بعودته و يعني أني دعيت أيضا للاحتفالية ضمن أبناءه و أعلم أني سأرتبط بها و رغم أن أفكاري هنا ضد المنطق الطبيعي و لكني أحسسته بقوة تستطيع أن تسميها خفية إن شئت و لكن .... ماذا إذا كانت باقي الأفكار المرعبة و التي بداخلي حقيقية هي الأخرى؟ معنى هذا أن حياتي ستمر بشهيق و زفير مدمرين إن جاز التعبير. كان الطبيب يقرأ الكتاب بينما بدأت هي في إرسال رسائل مضادة كنت أشعر بكل منها تتنوع بين الخجل و بين أنثى تخفي مشاعرها و بين إطراقات صمت و تفكير ثم تعود بنظرة حادة يملؤها التحدي فأدير نظري عنها بكل حنان الأب و الأم معا, سيدتي لم آت لأتحداك, سيدتي إني أعشقك, سيدتي أخاف ثم أخاف أن أفقدك , كانت تلك رسالاتي إليها بلغة غير التي تعلمناها أو خبرناها من قبل, إنها لغة الصمت. أثناء قراءة الكتاب و في موقف بالغ التعقيد حيث كان الطبيب يقرأ كلام البطلة إلى حبيبها أرسلت رسالة عشقية طويلة حانية تقبلتها كانت كافية لتعيش داخلي باقي عمري. لم يحن ميعاد قطاري بعد و لكن لسبب لا أعلمه تركتها مطرقة داخل أوراقها و انسحبت في هدوء من القاعة و نظري معلق بها أرسل لها إشارة وداع تاركا مقود الحب يقودني إلى قدري و قد تعلمت لغة جديدة هي أبلغ من أي كلام.
إهداء: إلى التي صنعتني كاتبا سأحبك رغم أنفك الجميل دون مقابل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق