الجمعة، 19 يونيو 2009

قصة الجوهرة (قصة)


كنت قد تعلمت أحد برامج الجرافيك على الكمبيوتر و الحقيقة أني عانيت الأمرين حتى تعلمته, فجأة خطر لي أن أصنع جوهرة بواسطة هذا البرنامج, قضيت شهورا و أنا أصنع شبكة الخطوط التي تتكون منها الجوهرة, أمحو و أعدل و أمحو و هكذا حتى بدى لي نسيجا متقنا لا يمكن أن يكون أفضل من ذلك و بدأت في ملأ الوجوه حتى يصبح للجوهرة شكلا و قضيت شهورا أخرى في إعداد الوجوه و زواياها و أركانها و أطرافها المدببة حتى بدت و كأنها جوهرة حقيقية و لكن علي الآن اختيار الألوان بحيث يصبح لتلك الجوهرة هذا البريق و اللمعان و كانت معاناة رهيبة قضيت فيها شهورا أخرى من العمل الدقيق الدءوب كي تخرج تلك الجوهرة إلى الحياة أو هكذا تخيلت وقتها, كنت أدقق في اختيار الألوان و درجة صقلها و بريقها و درجة سطوعها و لمعانها حتى بدت في النهاية جوهرة حقيقية , و لكن ........ و لكنها لا تتحرك , لم يحرمني البرنامج من تلك الميزة أيضا , بدأت في تحريك الجوهرة من اليمين و اليسار و من أعلى إلى أسفل بواسطة البرنامج, كان عملا متقنا إلى حد الذهول , أخذت أقلبها و أقلبها فرحا معجبا بها و وضعتها داخل مجلد أسميته (جيما) أي الجوهرة بالإنجليزية تقديرا لها فهي ليست كأي جوهرة أخرى إنها جوهرتي الخاصة بي, صنعي المتقن. أخذت أفتح مجلدي ليلا و أقلب الجوهرة معجبا بروعتها و كمالها ثم طاب لي أن أقيم سعرها , كانت مشكلة في بادئ الأمر إلا أني توصلت إلى أن البرنامج الذكي لم يحرمني من تلك الميزة أيضا و بعدة قياسات و عمليات حسابية و جدت أن سعرها خمسين مليون جنيها, هكذا ازداد ولعي بها و بدأت أفتح مجلدي و أخرجها لأستمتع بها ثم ازداد الأمر ليصبح ساعات و ساعات من مشاهدة تلك الجوهرة الرائعة. تدريجيا بدأ ينتابني شعور بخطورة ترك الجوهرة معروضة هكذا فقمت بإخفاء المجلد , أخرجه ليلا و أحدق بتلك التحفة النفيسة ساعات و ساعات ثم أعيد إخفاؤه ثم انتابني بعد ذلك شعورا بأن الجوهرة قد تسرق مني فأقوم مذعورا ليلا لأفتح الكمبيوتر و اخرج المجلد المخبأ لأطمئن أن جوهرتي بخير ثم أعود لنوم غير مطمئن و أستيقظ كأني لم أنم , أصبحت أقضي ليلي في حراسة الجوهرة و التحديق مذهولا بها و بدأت هواجسي تزداد يوما بعد يوم , ماذا لو أخبر أولادي الجيران بأمر الجوهرة ؟ سينتشر الخبر, و قد يبلغ عصابات المافيا , الذين سيأتون لأخذها, إذن سأقوم بالإمعان في إخفائها و تضليل العصابات , و لكن قد يقتحمون البيت و يعذبونني أنا و أبنائي, لن أخبرهم بمكانها مهما كلفني الأمر.
لاحظت زوجتي أن حالتي تسوء يوما بعد يوم فعرضت علي أن أرى طبيبا نفسيا فوافقت من فوري رغم أن الرؤية لم تكن واضحة بداخلي إلا أني كنت أشعر أنني لست بخير , توجهنا معا إلى ذلك الطبيب الأصلع الأبيض منتفخ الأوداج و الذي تبدو بلاهته في عينيه من خلف النظارة الأنيقة , و شرع الرجل بتشريحي بسكين ثلم و بدأت الأسئلة تنهال: هل تضرب زوجتك؟ هل تضرب الأولاد؟ هل تصاب بحالات هياج؟ هل تسمع أصواتا تحدثك؟ هل تسمع أصواتا لا تحدثك كشقشقة العصافير مثلا؟ هل تشعر انك تريد خزق عينيك؟ و تتابعت الأسئلة و كانت الإجابات بلا ما عدا شقشقة العصافير فإني أسمعها كل صباح أما بالنسبة لخزق عيني فقد أردت أن أجيبه بأني أريد خزق عينيه هو و لكني خفت أن يتهمني بالجنون, هكذا خرج الحاذق بتوصيات منها ألا أستعمل الكمبيوتر لمدة ثلاثة أشهر على الأقل و أخذ يلعن الحضارة و التكنولوجيا و العصر الحديث و كانت زوجتي تؤمن و أنا أضحك في نفسي و ناولنا وصفة دوائية طويلة , غادرنا مكتبه و أنا أقول له مع (الثلامة) يا دكتور فرد ببلاهة روتينية حمقاء. بدأنا العلاج و بدأت حالتي تسوء يوما بعد يوم , كنت أستيقظ ليلا لأندفع نحو الكمبيوتر صائحا أريد جوهرتي فتندفع زوجتي خلفي تمنعني من الكمبيوتر واضعة جسدها حائلا و سدا منيعا بيننا , أشرت على زوجتي أن أذهب إلى طبيب في القاهرة كنت قد سمعت عنه من بعض الأصدقاء , دكتور صقر, لم تكن زوجتي متحمسة لذلك فقد كانت مقتنعة بذلك الأبله تماما و بين اعتراض الزوجة و صياح الأبوين فالوالدة تفكر بأن الملعونة قد زجت بولدها في غياهب الأطباء النفسيين ربما انتقاما منها شخصيا و الوالد مرعوب من فكرة أن يكون ابنه مختلا و لكني قررت الذهاب و ليكن ما يكون. طبيب شاب لا تصدق أن ينل تلك الشهرة في ذلك السن , حاد النظرات , تلاحظ منذ الوهلة الأولى برود أعصابه لكن يخفي وراءها شيئا كثيرا أو على الأصح يتخفى وراءها , يعمل العقل بشكل مبالغ فيه كذلك ثقته بنفسه و الواضح أنها خارج حدود المعقول , يريد أن يعطيك انطباعا بثقل ظله و مع التعامل اكتشفت أنه غير ذلك إلى حد ما . بدأنا مشروع العلاج باتفاق عدم اعتداء أو بالأحرى عقد عدم اعتداء فأنا الكمبيوتر كله ملكي أشاهد جوهرتي كيفما أشاء و له عندي ألا يعطلني ذلك عن أنشطة حياتي الأخرى و سلمني وصفة طبية رخيصة الثمن. كانت زوجتي تنظر إليه متشككة في أمره و كنت أنا أكثر قناعة به من مرشحها الأول. بدأت حياتي تأخذ خطين متوازيين بين جوهرتي و أنشطتي الحياتية الأخرى , نجح اتفاق عدم الاعتداء إذن , زاد نومي وقل هلعي على جوهرتي , في أحد الأيام أفتح مجلدي المخبأ بعناية لأجد الجوهرة و قد اختفت و ظهرت رسالة صماء تقول (خطأ فادح لا يمكن استرجاع الملف) و هنا صرخت هلعا : جوهرتي.... أين جوهرتي؟ من أخذها مني؟ خف الصبيان لنجدتي و وراءهما فتاتي الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة , ماذا حدث يا (بابا)؟ يقول الصبيان بقلق واضح و أرد بخوف أكبر من قلقهما : لا أجد جوهرتي, قالا : سنسترجع الملف يا (بابا) , قلت بحنق: أي ملف أجننتم؟ أنا أتحدث عن الجوهرة, و ترد ابنتي محاولة طمأنتي سنجدها إن شاء الله يا (بابا) ..... سنجدها, جلس الصبيان على الجهاز بهمة و أخذا يتفاهمان,قال أحدهما : هناك برنامج الاسترجاع سنشتغل به و يومئ الآخر برأسه مؤيدا و أنا أقف خلفهما بجانب فتاتي أتابع سير العملية, يقول أحدهما لأخيه الآن سينشئ البرنامج ملفا افتراضيا في محاولة استرجاع الملف الأصلي , فأصرخ أنا : افتراضي ! ... افتراضي .. ولكني أريده حقيقيا فيرد علي ابني الأكبر و ما زالت عينه على الجهاز كله افتراضي يا (بابا) .... عالم الكمبيوتر كله افتراضي و هنا تظهر رسالة البرنامج ( لا يمكن استرجاع الملف من خطأ فادح), نظر لي الولدان نظرة حزن و أسف و كأنهما المسئولان عن ضياع الجوهرة ...... أقصد ملف الجوهرة, طلبت منهما بحزم الكف عن محاولة أخرى و التوجه إلى دراستهم و جلست وحيدا أمام الرسالة و رذاذ يتطاير من عيني.... كله افتراضي إذن و بينما كنت كذلك رأيتها على الشاشة تأتيني براقة متلألئة كما كانت, كنت في شدة الفرح بينما كانت دموعي تبلل خدي ,قلت لها: لقد فقدتك قالت: لا يجوز قلت:لم أجدك في مكانك. قالت: من قال لك أني كنت يوما هناك و أظنها ابتسمت لي و غمزت, قلت و قد دوختني الحيرة: ما معنى هذا لقد كنت هناك أنا واثق من ذلك, قالت: لأنك أردت أن تراني هناك, قلت : إذن أين أنت حقا بحق الله, قالت: كنت دائما بداخلك, حينها رأيتها تتفكك إلى أوجه لامعة و شبكات ثم خطوط و رأيتها تدخل إلى داخلي و تسري في كل جزء من جسدي, ابتسمت ابتسامة رضا و استسلمت ليلتها لنوم عميق, مرت سنون بعد ذلك و حالتي تتحسن يوما بعد يوم و عدت طبيعيا أو شبه طبيعي و كلما تذكرت أزمة الجوهرة ينتابني ذلك الحزن العميق النبيل.

إهداء: إلى أخي و صديقي دكتور أحمد عثمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق