الاثنين، 15 يونيو 2009

إنتحار أبو مصطفى (قصة)

عصرا صعد أبو مصطفى سطح البيت القديم و في يده المنشة من ليف النخيل أحمر اللون و وراءه ابنه عبده يحمل الطاولة الخشبية العتيقة على رأسه و التي يبدو عليها بوضوح أثر السنين التي قضتها في التنقل بين منزله في الدور الأخير و بين السطح .
كريمة الصغيرة التي لا تتجاوز الثمانية سنوات تحمل لأبيها الكرسي و تسير في آخر الموكب لا تكاد تفهم معنى هذا الموكب اليومي الصاعد عصرا و الهابط ليلا و لكن قدر علمها أن أبيها يعمل طوال هذه الفترة على السطح , حقيقة لا تفهم تحديدا ماذا يفعل و لكنها كانت تتلصص عليه من آن لآخر فتراه منهمكا في قراءة كتاب أو كتابة أوراق إذ كان يرفض بشدة تواجد أحد أفراد الأسرة أثناء عمله , و لكن ... و لكنها لم تره يوما يحضر مالا من ذلك العمل و يقول هذا المال كسبته من عملي كما يفعل جارهم أبو محمد السباك يأتي آخر النهار برزمة من المال يخرجها من جيبه بكل ثقة و اعتزاز يصل إلى حد الخيلاء قائلا خذي يا أم محمد حصيلة اليوم , لم تفهم كريمة أبدا لماذا لا يفعل أباها فعل أبو محمد , مع أنها تراه يكد في عمله بشكل ..... بشكل لا تفهمه , كانت تراه يأخذ السطح ذهابا و إيابا بخطوات هستيرية محمومة , يحدث نفسه رافعا يديه و كتفيه و هازا رأسه يمينا و يسارا ثم يومئ برأسه كأنه قد وصل للحل الامثل ثم يجلس ليكتب فيمزق ما كتب ليعيد الكرة , كانت تتصوره أحيانا رجلا مهما كمن تراهم بتلفاز الجيران و لكن .... أباها يجلس على طاولة مكسرة مرتديا جلبابا يكاد يكون مخرقا باليا و طاقية من نفس لون الجلباب بأقلامه الخضراء العريضة أما من تراهم في التلفاز يجلسون على مكاتب أنيقة و كذلك ثيابهم , كانت تذهب إلى أخيها عبده و تسأله عما يفعله أباها فوق السطح فيخبرها بأنه يؤلف قصصا فتسأله و لماذا لا تجدها بين الكتب التي في المكتبة الضخمة ؟ فيجيبها بأنه لا يعلم , تذهب إلى أخيها مصطفى الجالس مسترخيا على المقعد الممزق يقرأ كتابا فيبتسم بحسرة و قد اصفر وجهه و يقول لها اذهبي العبي الآن , فتخاف أن تسأل أكثر و تنصرف إلى اللعب.
في هذه الأثناء كانت أم مصطفى تعد الشاي بهمة و حماس كعادتها فأبو مصطفى لابد أن يتناول الشاي ساعة العصر مع بداية الكتابة و تسرح بخيالها عشرين سنة للوراء حينما تزوجته , كان يبدو طيبا مختلفا عن الآخرين و كان يتكلم بكلام كبير و غير مفهوم , كانت ابنة الثامنة عشر , كان موظفا صغيرا و لكنها توقعت بعقلها الصغير أن يكون له شأن ما فإنه يتكلم بطريقة لا تراها إلا في السينما , لابد أنه سيكون له شأن كبير يوما ما ..... و انتظرت طويلا و لم يحدث شيئا , جاء الأولاد و زادت الأعباء و دخله ما زال صغيرا و حينها فقط سألته عن تلك الأوراق التي يكتبها و يكدسها داخل الدولاب فأخبرها أنه يؤلف , سألته عن بيع إنتاجه و هي تفرك قلبها المهموم ممنية نفسها بالمال الذي سيجنيه , أخبرها أنه ليس بعد ..... لم تأت الفرصة بعد .
و انتظرت ثم عرفت أن الفرصة لن تأت أبدا.
حاولت أن تشجعه أن يجد عملا إضافيا فرفض بشدة و اعتبرها عدوة له و للإنسانية فكيف تحرمه من إبداع سيفيد البشرية في يوم ما.
و في صفقة غير واضحة المعالم و بذكاء أنثوي كفت عن الكلام , فالكتب القديمة و التي يشتريها بقليل من الجنيهات و كم كوبا من الشاي أرخص من جلسته في المقهى يوميا بلا عمل , كما أن انشغاله عنها يجعله لا يتدخل في شئون البيت , كما أنه يترك أولادها في حالهم و لا يحدثهم بكلام كبير قد يربك عقولهم الصغيرة , أفاقت من غفوتها على الماء يغلي لتعد الشاي و تنادي على أحد الأولاد بصوت يملؤه التفاؤل ليصعد لأبيهم بكوب الشاي و يخف عبده كعادته لتناول الصينية.
عبده أيضا بدأ في القراءة و هو لا يفهم الكثير و لكنه يجتهد و يسأل مصطفى فلا يجيبه و لكنه يحاول أن يفهم و ينظر إلى مصطفى على أنه مثله الأعلى و يحاول أن يحاكيه حتى في جلسته.
جلست الأم مع أولادها الثلاثة لتتحدث و تشيع الجو بهجة كعادتها , لقد قررت منذ زمن بعيد أن تضفي البهجة المصطنعة على هذا المنزل فلا ذنب للأولاد أن يحملوا ما ليسوا مسئولين عنه.
جلست كريمة تستزيد من الأسئلة عن الأستاذ نصحي السعيد الذي يرتدي والدها لمقابلته أنظف ثيابه و يضع كولونيا الليمون فهي لا تراه يضعها إلا يوم الاثنين من كل أسبوع .
فتخبرها أمها أنه كاتب كبير و أنه صديق والدها منذ أكثر من عشرين عاما و يدعوه لحضور الندوة الأسبوعية التي تقام بمنزله و أنه زار والدها هنا مرة أو مرتين ليطالع مكتبته و هنا ينظر مصطفى إلى أمه بابتسامة ساخرة أربكتها, فقد كان يعلم أن الدعوة عامة و أن أبيه يلصق نفسه إلصاقا بالندوة, تتجاهل تلك النظرة المسمومة و تحول نظرها إلى الفتاة و تسترسل في ذكر مناقب أبيها و ثقافته و سعة علمه.
كانت كريمة تسمع مشدوهة بأهمية أبيها و لكن عينيها كانتا زائغتين كأنما كان عقلها ينكر ما يسمع.
و انصرف مصطفى تماما لقراءة ما في يده بينما كان عبده يرفع عينيه عن كتابه بين الحين و الآخر ليتابع ما استجد من حديث إذ أن هذا المنوال قد تكرر كثيرا أمامه منذ كان في عمر كريمة و مازال يذكر أن أبيه كان يأتي الاثنين ليلا فلا يمل من الكلام عن الندوة طوال الليل و حتى يغلبهم النعاس و قد لاحظ أيضا أن الأستاذ نصحي لا يوجه الكثير من الكلام لوالده.
مازال أبو مصطفى يكتب و يكتب إلى أن فاجأته أوزة بأن تبرزت على قدمه , فوجئ الرجل و انتفض ليركض وراءها صائحا تعالي يا ابنة الكلب , و لكنها طارت بعيدا عن متناول يده.
نظر أبو مصطفى لقدمه و قد لوثتها فضلات الأوزة و رأى نعله البلاستيكي في قدمه و قد اكتوى بالنار إذ أن أم مصطفى كانت تصله بقطعة من البلاستيك كلما انقطع و امتد نظره إلى السطح فرأى فضلات الدجاج هنا و هناك ثم تلك الحظائر التى تبنيها أم مصطفى بيديها و بمساعدة أولادها إذ لابد من أن يأكلوا لحما و كانت تلك هي الطريقة الوحيدة كي يحصلوا عليه بينما كانت أم مصطفى تجمع ما يصلح لإطعام الدواجن من القمامة خلسة لضيق ذات اليد .
نظر أبو مصطفى للكرسي و الطاولة ثم إلى جلبابه و نزل الدرج , دخل المنزل و كأنما يدخله لأول مرة , نظر إلى الأثاث المتهالك و الحوائط و قد أكلتها الرطوبة , دخل الحمام شبه المنتهي ليغسل قدمه , خرج و قد كان بادي الذهول مما أزعج أم مصطفى كثيرا فسألته:
- ما لك يا أبو مصطفى كفى الله الشر.
أجابها : لا شئ.
نظر إلى مصطفى و سأله : أنت طالب في الكلية؟
رد مصطفى بنظرة خاوية من المشاعر و برود لا يخلو من الاستهزاء ثم عاد إلى كتابه .
ثم نظر إلى عبده و سأل : أنت طالب في الإعدادي ؟
فأجابه عبده بدهشة : نعم
ثم إلى كريمة : و أنت طالبة بالابتدائي؟
انزعجت الطفلة و لم ترد
ثم أحد النظر لأم مصطفى و قال : و أنت تحولين القمامة إلى دجاج .
فردت : أنت تعبان يا خويا ؟
قال: لا .... لا ... لا يمكن ..... أنا بخير الآن .
صعد أبو مصطفى الدرج و كل ما امتلك رأسه قصة انتحار هيمنجواي يوم انتحر و كان يصرخ لا نهاية للبؤس , حاول أن يعتلي سور السطح العريض فلم يفلح , أحضر الكرسي كي يعتلي بمساعدته السور , وقف على السور ينظر في الأرض و كأنما يحدق في البحر , تجمع الناس يشيحون بأيديهم و يصيحون ارجع يا أبو مصطفى فيصرخ : (لا نهاية للبؤس) , يتزايد الناس و يتزايد الصياح ارجع يا أبو مصطفى الله يهديك فيصرخ : (لا نهاية للبؤس) و يصيح أحد الأفراد من أسفل : لا نسمعك , ماذا تقول؟ و يشير الناس بأيديهم كي يرجع.
يبدو أن أبا مصطفى تعب من الوقوف و أثناء محاولته الجلوس على السور فقد اتزانه و سقط أثناء ارتقاء بعض الجيران الدرج محاولين إنقاذه .
هلعت الأسرة من اندفاع الناس و خرجوا يستطلعون الأمر فعلموا بالكارثة بين صراخ الصغيرة و وجوم الكبار.
وصل خبر وفاة أبو مصطفى الكاتب نصحي فرجعت الذاكرة إلى الوراء أكثر من عشرين عاما حينما بدأ أبو مصطفى في حضور الندوة محاولا أن يكون تلميذا نجيبا له و من الوهلة الأولى اكتشف نصحي أن تلميذه بلا موهبة حقيقية و رغم أنه لم يفوت الندوة مرة واحدة طوال العشرين عاما .
بينما كان نصحي معجبا بمداومته و صبره و مثابرته حاول أن يفهمه الحقيقة بل كان دائما يحدثه بأن الموهبة هي كامن طبيعي داخل الكائن و لا تكتسب و أن من لا يجد موهبته في الأدب لابد و أن يجدها في شئ آخر و لكن أبو مصطفى و كما تعود منه دائما لم يستوعب , حاول الأستاذ نصحي أن يفهمه أن العقول البشرية لا تستوعب المواد أكانت ثقافية أم علمية بنفس الدرجة من العمق و الرؤية و أن هذا حال الكثيرين و لكن أبو مصطفى هو أبو مصطفى , يشعل نصحي سيجارته و يتذكر كيف حاول مساعدته بتوفير عملا إضافيا له حينها رد أبو مصطفى بفزع : و إبداعاتي يا أستاذ كيف أوفق بينها وبين العمل الإضافي؟.
نظر نصحي إلى سيجارته مبتسما يتذكر كيف كان أبو مصطفى يمد يده بحبور و امتنان ليتلقى سيجارة الأستاذ فهو لم ينس و لو للحظة أنه موظف بسيط.
هنا قفزت في ذهن نصحي فكرة كي يساعد أبناء المتوفى بمبلغ من المال .
سيتظاهر بشراء مكتبته لقاء مبلغ كبير من المال يعينهم عل إكمال مشوار الحياة.
توجه نصحي إلى المنزل القديم و استقبلته الأسرة بالحزن المعتاد , وجه نصحي حديثه إلى مصطفى (كان والدك مثقفا و كاتبا كبيرا)
رد ساخرا: أحقا كان؟
كان الرد محرجا لنصحي فحاول أن يغير الموضوع : و كيف توفى الوالد؟
رد مصطفى : أراد أن يشتهر بعد وفاته ......... أراد أن يقلد ميتة آرنست هيمنجواي ... أراد أن يلصق بنفسه عليه.
نظر نصحي مندهشا , أضاف مصطفى : لقد وقف على سور السطح و أخبرنا الجيران أنه كان يقول كلاما فسروا منه كلمة البؤس , فعلمت أنه كان يقول :( لا نهاية للبؤس) مع فارق أن هيمينجواي أطلق على نفسه الرصاص في حقل القمح و هو اختصر التكاليف و فرق بسيط آخر أن هيمنجواي كاتب (العجوز و البحر) .
كانت الجلسة تزداد ثقلا و غرابة فأشار نصحي إلى المكتبة التي جاء من أجلها بادئا حديثه : و هل قرأت كتبا من هذه المكتبة ؟
أجاب مصطفى: قرأتها كلها.
أراد نصحي أن يتأكد: كلها؟
أجاب: نعم.
حاول نصحي أن يختبر الفتى : و ماذا عن إنتاج أبيك .... ؟
مصطفى: بعته لمحل بأول الشارع و قبضت ثمنه ثمان جنيهات.
تساءل نصحي مفكرا : أتبيع إنتاج أبيك بذلك المبلغ ..... و هل قرأته قبل أن تبيعه؟
مصطفى : قرأته كله ............ لم يفعل أبي شيئا يستحق.
و ابتسم نصحي و قد ترقرقت دمعة بعينيه قائلا : أتراهن على ذلك؟
نظر إليه مصطفى محدقا و لم يرد.وضع الأستاذ الظرف المالي في حجر أم مصطفى ثم انسحب سريعا و نزل الدرج شارد الذهن يفكر هل سيعود موقفه من أبي مصطفى كما كان أم أنه سيعيد التفكير في كل شئ مرة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق