هكذا إذا ....... وصلت الفتاة الجميلة صفها الأول الثانوي في المدرسة الخاصة في تلك المدينة الصغيرة.
هاهي ترتدي زيها الأنيق و التي حرصت أن يكون منمقا جدا و تحتضن حقيبتها الأنيقة أيضا كما اعتادت أن تفعل.
تنزل إلى الشارع و لكن حتما الاتجاه سيتغير , إنها تحب الخضرة ويجذبها هذا الشارع الهادئ كثير الخضرة و الأبنية الأنيقة في آن واحد و هي عاشقة الأناقة, كانت أنيقة منذ نعومة أظافرها , كانت أمها تحرص على ذلك بل و المبالغة فيه , و قد وصلتها الرسالة بحذافيرها و نضجت داخلها كلما ازدادت عمرا,أدركت أهمية المظاهر في مجتمع لا يعرف غيرها.
أدركت أمها كما أدركت هي بحكمة شديدة كنه مجتمعهما و مدى تسطيحه للأمور و كم من السذج في هذا المجتمع و الذي أصبح خليطا مشوها من أهل القرى النازحون و أهل المدينة الأصليون و الممزقون بين عادات ريفية توارثوها و المدنية التي تزحف برتابة فيحتدم الصراع أكثر فأكثر بين حضارتين و بينهما كثيرون فقدوا هويتهم لا يستطيعون تحديدها , مدعون أكثر من أن تكون لديهم عقيدة.
هكذا إذا ...تخطو الفتاة أولى خطواتها بين البيت و المدرسة و بين الطفولة و الأنوثة, تسير مدعية الثقة و هي غير ذلك تماما لقد كانت خائفة من يومها الأول في المدرسة الثانوية و من ذلك المجتمع الجديد , كانت خائفة من نفسها , كانت خائفة من كل شئ.
كان المنزل أكثر أمانا من خارجه فقد زرعت أمها داخلها أنها ستضيع خارج المنزل و ان هناك من الأخطار ما لا تطيقه .
ربما كان هذا هو السبب أنها كانت تقضي المشاوير جريا, إذ كانت دائما في عجلة ان تعود إلى المنزل حيث الأمان النسبي الذي كانت هي تعتبره جنتها.
هكذا إذا .. تخطو أولى خطواتها و تمسك ساقيها من الجري بصعوبة إذ كانت في حالة هروب مستمر.
تنظر بعينيها إلى الأعلى فترى ذلك الشاب في شرفة الدور الثالث يحتسي الشاي, تعلقت عيناها به كما كان نفس الشئ منه , لم تلحظه جيدا و لكن أحست أن النشوة تغمرها و شعرت أن كل شئ بجسدها ساخنا , حتى الهواء الذي تتنفسه.
انتهى اليوم الدراسي سريعا , عادت من نفس الطريق على أمل لم يتحقق فقررت أن يكون ذلك طريقها يوميا إلى المدرسة.
في اليوم التالي كانت تتقافز على السلم مسرعة و قد قررت أن تتلكأ في مشيتها حتى تدرس ملامح وجهه فقد تعلمت أن تدرس كل شيئ جيدا.
هكذا إذا .. شاب أسمر داكن السمرة ذو شعر خشن, متوسط القامة, نحيف و رياضي ويبدو من نظراته أنه مهذب فهو لا يحد النظر إلى جسدها بقدر ما كان يركز في وجهها و عينيها ,و لأول مرة تعرف الحمرة ليست حمرة الخجل و لكن من احاسيس تنفجر بها لأول مرة. أصبح موعدا يوميا و لقاء مأمونا , كانت تخلو إلى نفسها كما كانت تفعل دائما أما الآن فقد دخل الفارس أحلامها , كانت تحلم باليوم الذي سيحاول أن يكلمها و طبعا لن ترد عليه و إلا اتهمها بالانحراف و لكن ...... قد يتركها للأبد .... و قد يأتي يوما لخطبتها , لقد قررت ألا تكلم إلا من يأتي لخطبتها.
لقد كانت تنظر في مرآتها كثيرا كثيرا أما الآن فتتخفف من ملابسها لتتحسس أجزاء جسدها بيد مترددة و أحيانا مرتعشة , تنظر إلى نفسها بحب و قد ازدادت ولها بها.
لم تحب سوى امها و نفسها , كانت تعتقد أن امها تستحق حياة أفضل و كذلك هي رغم رغد العيش الاتي كانتا تعيشانه إلا انه لم يكن مرضيا لكلتيهما.
مضت الأيام و تزداد ولها بفارسها الذي لا تعرف عنه شيئا حتى بدأ يزورها في نومها , يحدثها و يداعبها و يبادلها العشق و الغرام .
كانت سعيدة بحياتها الجديدة و بفارسها إلى أن ظهرت تلك الطالبة الساقطة ابنة التاجر الكبير و التي استفزها جمالها و أناقتها فأخذت تبحث وراءها إلى أن فجرت في وجهها القنبلة عن أصلها و فصلها و حالها و أقاربها أمام لفيف من الزميلات, لم تقابل الهجوم بالدموع أو العويل بل بالصمت, الصمت المطبق و عينان جامدتان كالحجر الأصم و هدوء قاتل أو أشد قتلا من القتل نفسه.
ذهبت إلى المنزل و لم تخبر أحدا سوى أمها التي ربتت عليها بحنان و أمرتها بالتكتم. كانت ليلة غير عادية, لم يكن هناك مجال للحزن و لكن كان شئ يغلي بداخلها , كان رأسها يتكسر , كان كل شئ يتصلب بداخلها , أحست أن جسدها يتحول إلى كتلة من الرخام على فراش لا تشعر به تحتها , كانت عيناها مفتوحتان طوال الليل و لكنها لم تكن تفكر أو تنام.
في الصباح تناولت إفطارها و ذهبت إلى مدرستها كأن شيئا لم يحدث و لكنها كانت أكثر هدوءا من المعتاد, تعمدت تغيير طريقها إذ كانت لا تريد مواجهة عينيه , في المدرسة كانت ترد بكلمات مقتضبة و جاءت بعض الطالبات لمواساتها فأظهرت أن الأمر لم يؤثر بها بتاتا و أن (كل واحد يعرف نفسه) و هي عبارة مطاطة فيها لفت نظر أن هذا التاجر لم يبدأ كبيرا أيضا بل عانى الأمرين في بداية حياته.
مرت الأيام و الفتاة قد تغير طريقها المعتاد و لكن فارسها عاود يطل عليها في أحلامها و هي لا تريد أن تعود إلى خط سيرها الأول إلى أن رأته صباحا يسير أمامها في طريقها الجديد فعلمت انها قد أوحشته و كانت تلك دعوة لعودتها إلى طريقها القديم.
الآن كل شئ يحدث بداخلها , تفكيرها بداخلها, تعليقاتها على الحوار بداخلها, تنظر, تتابع ,لا تشارك , عقلها يعمل بنشاط غير عادي, ذاكرتها أصبحت حديدية و لكنها لا تشارك, استغربت الزميلات من أسلوبها فكانت تبرر ذلك بأن المواضيع لا تعنيها بالدرجة , كانت ابنة التاجر تنظر إليها بغل تريد أن تستدرجها إلى معركة كلامية و لكنها كانت تتحاشى النظر إليها بتعال مبهر يزيد نار الأولى اشتعالا .
هكذا إذا... أصبحت في صفها الثاني الثانوي و مازال فارسها يملأ عقلها و قلبها و أحلامها أيضا .
أصبحت ترى أن الزميلات أصبحن أكثر تفاهة مما كانت تجدهن و كأنها قد كبرت ثلاثون عاما في عام واحد.
و في ليل جاء خبر انتحار الطالبة الفاشلة و كان حديث الأسرة عن تفاصيل ذلك الحدث و ملابساته, كانت تتابع الحديث في صمت كعادتها و عيناها تلمعان و لا تبدي أية انفعالات سوى ابتسامة باهتة تبادلتها مع أمها لم يلحظها سواهما.
هكذا إذا .... دخل أخوها الأكبر الكلية و زامله فارسها و الذي وطد علاقته به بسرعة و حماس و كان أخوها متحمسا أيضا للصديق الجديد إذ رأى فيه تقاربا في سلوكهما و ميولهما , كانت تسمع حكايات أخيها لأمها و تتابع و لا تعلن و كان داخلها يبتسم في هدوء , فهي وحدها تعلم سر التقارب السريع.
دخل بيتهم و كالعادة لم تكن الفتيات تجالس الشباب و مع ذلك يكفي أن يترامى صوته إلى سمعها, كانت كل كلمة تهزها, كانت تتابع الأحاديث بطرب غير عادي, كانت تتسمع أكبر قدر من الحديث , تقضي أطول وقت بالمطبخ إذ كان أقرب مكانا لمجلسه و تصنع الحلوى بكل العشق و اللهفة كأنها كانت في تلك اللحظة تبادله الغرام.
كان ذكيا إذ أدرك أن تلك الحلوى اللذيذة و الكرم الأكثر من حاتمي لا تصنعها إلا واحدة مهتمة برجل أيما اهتمام, فلم يعلق أبدا إلا بكلمات مقتضبة لا تفضح مشاعره.
كانت تراه رجلا كما ينبغي للرجال أن تكون, يكفي أن تجلس بين أخيها و أمها بعد نزوله لتتابع باقي الأحاديث ليرتسم ذلك الفارس بكل تفاصيله داخل مخيلتها.
كان مشوارها إلى المدرسة بعد ذلك نزهة و فرحا و عذابا إذ على قدر ما كان يصبرها أن تراه بعد أن اكتملت الكثير من صورته على قدر ما كانت لهفتها أن تلمس ذلك الشعر الخشن و تتلمس جسده و ذقنه بعد أن نبت الشعر فيها فتجرح يديها , كانت تريد أن تخلط بياضها بسماره فيذوبان معا و تذوب هي إلى حد الفناء.
تدخل صفها الثالث و تصبح شخصية بارعة بين قدرات لا تدري هي كيف و متى نمت فهي الآن الأقدر بين الفتيات على الحديث و المراوغة و الهروب و الدفاع و التبرير , لديها وجهة نظر جاهزة عن كل شئ تدافع عنها باستماتة و تقهر غريماتها في المناقشة فإن لم تستطع فتنصب لهن الفخ تلو الفخ فيقعن في أخطاء ساذجة تجعلهن يتراجعن عن وجهة نظرهن و إن احتاج الأمر ستستعمل التجريح بأسلوب غاية في اللباقة و النعومة و الهدوء و أحيانا بابتسامة تجعل غريمتها تتقبل ذلك في خرس و اقتناع و لو مؤقت و كانت هي تجرب المرة تلو المرة مع زيادة قدرتها و ثقتها و لقد تعلمت أيضا ألا تستعمل هذا السلاح كثير و إلا احترق الأمر كله فكان صمتها طويلا طويلا و كلامها قليلا كما كانت تجد راحتها مع البنات الساذجات الطيبات طيبة سلبية.
هكذا إذا .... تدخل الكلية أنثى كاملة الأنوثة و فارسها مازال يتبادل الزيارات مع أخيها و هي في كل زيارة تستمتع و تنتظر ..... و لا يحدث ما أرادت أن تنتظره , لا داعي للاستعجال فمازال طالبا.
في الكلية و جدتها زميلاتها شخصية خلابة , أنيقة في ملبسها , في سلوكها , في كلامها , كانت الفتيات تتودد إليها و هي التي تختار من بينهن من تصلح للصداقة أو لا تصلح و كانت دائما تنتقي صديقات (طيبات) من مستوى مادي واجتماعي أقل, لم تكن أبدا تصادق أحدا من غير هذه النحلة.
تزداد الأنوثة الكاملة نضجا و يتقدم الخطاب و ترفض بدعوى أنها مازالت تدرس و لا تريد شيئا يعطلها عن ......... دراستها.
تتابع أخبار فارسها الذي كثرت الأخبار عن نبله و شهامته و رجولته و مواقفه المليئة بالمبادئ و الشرف و المثاليات.
آه لو ترتمي في أحضانه يوما و تبكي و تخبره أنها كاذبة و غشاشة , خدعت الجميع و لم يكتشف خداعها أحد و أنها بإرادتها تخبره بذلك و تريد أن تتطهر به و إلى جواره, آه لو بللت دموع الندم كتفيه و خده ثم يأخذ بيدها إلى بداية جديدة تكون فيها طاهرة مثله و لكن ........... و لكنه لم يأت بعد.
ظلت تكتفي بمشاهدته في الشرفة موعدا لا يمكن أن تخلفه , ظل يزورها في أحلامها ضيفا كريما, أصبح شريكا في فراشها تنتظره مرحبة فإن لم يأت في أحلامها أغمضت عينيها و تحسست جسدها فيأتي بشوق و لوعة العشاق.
هكذا إذا ... تتخرج الغادة الهيفاء و تبدأ حياتها العملية , تعلمت أن تمشي بتؤدة و وقار و لكن كان داخلها دائما مذعورا لا يهدأ إلا إلى جوار أمها و إخوتها.
تجد نفسها متدربة تحت إشراف أخت فارسها و هكذا إذا كانت الفرصة أكبر لتسمع عنه كلام امرأة لامرأة و الواضح أن عملها هذا كان مدبرا و ليس وليد الصدفة و قد تضامنت هي مع الظروف بادعاء عدم الفهم.
يظهر الفارس وجها لوجه و لأول مرة حيث يزور أخته في عملها أو يوصلهما معا للمنزلين المتجاورين, استطاعت أن تسمعه و تقرأ شفتيه معا, كان لمعان عينيها يشتد كلما وجه إليها الكلمات و النظرات التي يملؤها كل شئ ..... نعم كل شئ , كانت نظراته تحدث تفاعلا غريبا داخلها يمر خلال سائر جسدها و ينتهي بها ملقاة في فراشها ليلا تتثاءب في ثقل كامرأة خلال فترات الحمل الأولى , و لكنها كانت تفيق من نومها بعد ساعة أو ساعتين و تستدعيه مرة أخرى ليأتيها في جوف الليل , معا سرا , على فراشها, في منزلها على بعد خطوات من والديها و إخوتها.
أدركت أخته القصة و كانت متحمسة لهذا العشق الغريب و القديم المتجدد فحاولت تقريب المسافات أكثر فأكثر و كانت تلك السنوات هي أفضل ما مر على غادتنا الهيفاء في حياتها فقد كان القرب حقيقة و لو أن الأوقات كانت قليلة إلا أنها كانت كافية لتعرف أن فارسها هو بحق فارسها و أنه الرجل الوحيد في هذا العالم الذي يستحقها.
منذ اليوم ستجعل الحلم به وردا و عبادة كصلاتها أو أشد , تبتسم و هي تتذكر نفسها كيف تصلي بين الصحو و النوم دائما حتى صلاة الصبح فقد تعودت الصلاة منذ طفولتها و كانت تضرب أو تعنف عل تركها فكان يجب عليها أن توهم أباها أنها تصلي و لو شكلا و نمت على ذلك.
هكذا إذا ...... تبدأ عملا جديدا , يتوافد الخطاب و يتوالى الرفض في انتظار و على أمل.
تنظر إلى نفسها في المرآة و تتحسس جسدها , لقد ازداد اللهيب سعيرا و تخشى أن تحترق الشمعة قبل أن يأتي فارسها .
لم يعد الطريق إلى عملها هو الطريق القديم إلى المدرسة و الكلية و لم تعد تحت التدريب في ذلك العمل المؤقت كما غرق فارسها في الحياة العملية و لم يبق لها إلا الحلم, حلم كل ليلة , عاد صوته يتناهى إلى مسامعها في المطبخ و هي تعد الحلوى بنفس الهمة و الحماس, ما عادت تقرأ شفتيه و لا ترى وجهه إلا لمحا و هو يعبر من الصالون إلى الباب .
تمر السنون, سنون كثيرة و ما زالت تحتفظ بجمالها و مازالت ترفض من يتقدمون لطلب يدها. تقدم أحد الخطاب و يبدو أنه كان دون المستوى و من الواضح أنه عندما أفهمه الأب أن طلبه مرفوض أخذ يلمح الرجل إلى سنها المتقدم بفجاجة و لزوجة أجبرت الوالد أن ينهي المقابلة, تناهى إلى سمعها أطراف من حديث الولد للوالدة فأدركت الفتاة أن الشمعة بدأت تأكل نفسها و انه آن الأوان أن تتزوج , فقد انتظرته أطول مما يجب.
تجد نفسها متدربة تحت إشراف أخت فارسها و هكذا إذا كانت الفرصة أكبر لتسمع عنه كلام امرأة لامرأة و الواضح أن عملها هذا كان مدبرا و ليس وليد الصدفة و قد تضامنت هي مع الظروف بادعاء عدم الفهم.
يظهر الفارس وجها لوجه و لأول مرة حيث يزور أخته في عملها أو يوصلهما معا للمنزلين المتجاورين, استطاعت أن تسمعه و تقرأ شفتيه معا, كان لمعان عينيها يشتد كلما وجه إليها الكلمات و النظرات التي يملؤها كل شئ ..... نعم كل شئ , كانت نظراته تحدث تفاعلا غريبا داخلها يمر خلال سائر جسدها و ينتهي بها ملقاة في فراشها ليلا تتثاءب في ثقل كامرأة خلال فترات الحمل الأولى , و لكنها كانت تفيق من نومها بعد ساعة أو ساعتين و تستدعيه مرة أخرى ليأتيها في جوف الليل , معا سرا , على فراشها, في منزلها على بعد خطوات من والديها و إخوتها.
أدركت أخته القصة و كانت متحمسة لهذا العشق الغريب و القديم المتجدد فحاولت تقريب المسافات أكثر فأكثر و كانت تلك السنوات هي أفضل ما مر على غادتنا الهيفاء في حياتها فقد كان القرب حقيقة و لو أن الأوقات كانت قليلة إلا أنها كانت كافية لتعرف أن فارسها هو بحق فارسها و أنه الرجل الوحيد في هذا العالم الذي يستحقها.
منذ اليوم ستجعل الحلم به وردا و عبادة كصلاتها أو أشد , تبتسم و هي تتذكر نفسها كيف تصلي بين الصحو و النوم دائما حتى صلاة الصبح فقد تعودت الصلاة منذ طفولتها و كانت تضرب أو تعنف عل تركها فكان يجب عليها أن توهم أباها أنها تصلي و لو شكلا و نمت على ذلك.
هكذا إذا ...... تبدأ عملا جديدا , يتوافد الخطاب و يتوالى الرفض في انتظار و على أمل.
تنظر إلى نفسها في المرآة و تتحسس جسدها , لقد ازداد اللهيب سعيرا و تخشى أن تحترق الشمعة قبل أن يأتي فارسها .
لم يعد الطريق إلى عملها هو الطريق القديم إلى المدرسة و الكلية و لم تعد تحت التدريب في ذلك العمل المؤقت كما غرق فارسها في الحياة العملية و لم يبق لها إلا الحلم, حلم كل ليلة , عاد صوته يتناهى إلى مسامعها في المطبخ و هي تعد الحلوى بنفس الهمة و الحماس, ما عادت تقرأ شفتيه و لا ترى وجهه إلا لمحا و هو يعبر من الصالون إلى الباب .
تمر السنون, سنون كثيرة و ما زالت تحتفظ بجمالها و مازالت ترفض من يتقدمون لطلب يدها. تقدم أحد الخطاب و يبدو أنه كان دون المستوى و من الواضح أنه عندما أفهمه الأب أن طلبه مرفوض أخذ يلمح الرجل إلى سنها المتقدم بفجاجة و لزوجة أجبرت الوالد أن ينهي المقابلة, تناهى إلى سمعها أطراف من حديث الولد للوالدة فأدركت الفتاة أن الشمعة بدأت تأكل نفسها و انه آن الأوان أن تتزوج , فقد انتظرته أطول مما يجب.
تناهى إلى سمع الفارس عن كثرة خطاب حبيبته و توالي الرفض و المبالغ فيه أحيانا فأحس بالحرج و من فوره فاتح أباه ذو المركز الاجتماعي و الأدبي المرموق فتبين من رده أنه غير موافق و بعد الكثير من الحديث و الأخذ و الرد قرر فارسنا أن يكون ولاءه لأسرته قبل حبه, و لأنه فارس و مثالي فلقد انتهز أقرب فرصة ليفتح موضوعا عن الزواج مع صديقه أخو الفتاة و بلباقة يفهمه أنه يريد الزواج و الاستقرار لكن إمكاناته المادية لا تسمح الآن و لن تسمح لعدة سنوات قادمة و الله يعلم إلى متى و في خضم دهشة صديقه و توجسه لم يشأ أن يناقشه و لكنه فهم ان في الأمر رسالة ما و الذي نقلها إلى الأم أمام الأخت الصامتة أغلب الوقت.
هكذا إذا ... و قد بدأ العمر في التآكل , فكرت وحيدة كعادتها , إذا هي انتظرته لن تصلح زوجة له, لن تنجب له أطفالا يملئون حياته , و لكن ليس لديه إمكانيات؟ شئ عجيب حقا , أرادت أن تغفل نفسها فطردت هذا الخاطر بعيدا, إنه فارس فلابد انه صادق و هو يحبها و هي متأكدة من ذلك , ستحافظ على عهده و لآخر ليلة في عمرها و إن تزوجت نجل السلطان فلن يثنيها هذا عن العهد المقدس الذي اتخذته على نفسها.
هكذا إذا ... يتقدم رجل مناسب و هي الآن على حافة الخصوبة , إنه من النوع الطيب الذي تفضله و أبلغ دليل على أنه طيب أنه تقدم لخطبتها فهو يكبرها بعدة أشهر كما أن كل الملابسات و الظروف لا ترشحها عروسا له.
و لكنه ..... أبيض اللون , ناعم الشعر, طويل القامة , لا يبدو لها مثاليا و لا فارسا, متوتر أغلب الوقت , يفتقر إلى الركوز و التركيز , مندفع في الكلام , في العواطف, مندفع نحوها في بلاهة مضحكة تجعل الأمر كله هزليا.
كانت تشرد و هي جالسة معه أستقضي باقي حياتها مع هذا المهزوز المهرج؟ أستقضي باقي حياتها مع هذا الناعم الرومانسي؟ و الذي لا يبدو لها رجلا من أساسه, رغم فحولته التي تبدو في تضاريس جسده و لكنها .......... لا تشعر أنه رجل.
كان الرجل الطيب يتدله بالحب و بالأشواق في فتاته الجميلة و هي تنظر إليه باستغراب شديد و بجمود أشد و داخلها كانت تشك في قواه العقلية فهو ليس طيب فقط بل أعمى القلب أيضا.
لقد كانت بالنسبة لها زيجة مناسبة و السلام و لم تظهر ما يجعله يندفع بهذا الشكل الأحمق.
ما هذا الملل الذي تبدأ به الحياة الزوجية كانت ترد عليه بردود قصيرة باردة و أحيانا قاسية محاولة قياس مدى حمقه و تفاهته و لكنه لا يريد أن يتنازل عن إغراقه في الطيبة .
كانت تنظر إلى شعره و بياض بشرته و أسلوب كلامه و عرضه و تشرد مقارنة بينه و بين فارسها و طبعا المقارنة ظالمة بين من تحب و من لا تحب, جاءتها فكرة شجعتها على الاستمرار فهذا التباين يساعدها على الوفاء بالعهد.
لاحظ كثرة شرودها و سألها سؤالا فجا مباشرا فلجأت إلى فنون المراوغة متعللة بأنها تسترخي ذهنيا قبلها الرجل حتى دون أن يسأل عن معنى الاسترخاء الذهني.
تم عقد العقد و حدث اطمئنان إلى استمرار الزيجة و لم يبق على الزفاف سوى شهرين و شيئا فشيئا تكشف وجهها الذي ظهر في الصف الثالث الثانوي ثم تبلور أكثر أثناء الكلية و العمل.
خلط عنيف بين الطيبة و قلة الحيلة و بين الطيبة و البلاهة و الحمق و دائما نظلم الطيبة في منتصف نقائص لا علاقة للطيبة بها , فالطيبة هي المتهم البرئ في كل تلك الأحوال.
أصيب الطيب بالخرس و كأنه سكت عن الكلام أو مل كلاما رده كلمة أو كلمتين و مل جمود المشاعر و الذي تظهره الآن ببراعة و فخر و أكمل صاحبنا الزيجة لأنه رجل طيب.
شهر عسل تقليدي بالإسكندرية كانت أثناءه الفتاة في مهمة استطلاع و تقييم و دراسة كي تضع خطة التعامل في المستقبل بينما كان الرجل غارقا في حالة من الهيام الحالم و كأنه لا علاقة له بما حوله.
كان أول انتباه للرجل بينما كانا يجلسان على شاطي البحر مع المذياع الصغير عادة أهالي المدن الصغيرة كانت تحدق في البحر و كان المذياع يذيع أغنية لفريد الأطرش (يا زهرة في خيالي), (أسكنتها في فؤادي),(جنت عليها الليالي), (وأذبلتها الأيادي), نزلت دموعها حارة تكوي قلبه و روحه و طلبت منه أن يطفئ المذياع بلهجة عصبية متألمة.أذعن لأمرها و بعد لحظة من الصمت سألها بهدوء عن معنى ذلك , أخذت تراوغه بمبررات لا تنطلي على طفل صغير.
و بدأت الحياة و لم يمض كثيرا حتى مرض الرجل بأمراض عجيبة و شكاو أعجب أجمع الأطباء أنها لا تندرج تحت أي مسمى مرضي معروف, طبيب مغمور لامع الذهن اقترح عرض الرجل على الطبيب النفسي و اختارت الأسرة طبيبا نفسيا طيبا مثله.
حار الطبيب في الأمر و لكنه أكد أن هناك مرض نفسي و ربما أن المرحلة هي مرحلة ما قبل المرض لذلك يصعب التشخيص.
عندما يحتار الطبيب تكثر قائمة الأدوية و عنفها , يتعاطى الرجل الدواء فيصاب بالنوم العاجز, هو أقرب للموت من النوم , ينسحب تدريجيا من الحياة و من حوله, علاقاته تتقلص و لا يستيقظ تقريبا إلا للضروريات و مطارحتها الفراش, تنظر إليه دائما من أعلى و شعور بالزهو و التفوق يظهر جليا في ملامح وجهها , كان الرجل يتعجب في صمت مجبر هو عليه , فقد كان تدريجيا , يفقد ملكاته الملكة تلو الأخرى في شعور أليم بالعجز ساعدتها قدرتها على الحديث أن تخرس ما بقي منه من لسان و ما بقي منه من منطق.
لاحظت أن ذاكرته تضمحل بل تنهار فأضافت سلاحا إلى أسلحتها تنخسه به إذا فكر أن يفيق من غيبوبته.
ألبسته ثوبا من كل النقائص التي في الدنيا ابتداء من طعنه في رجولته و مرورا بأنه مقزز حتى في طريقة تناوله الطعام إلى أنه غبي و أحمق و لا يصلح لشئ , كان يشكو للطبيب سوء المعاملة و يعلن صراحة أنه يريد فراقها فيعينها الطبيب عليه بأقراص مهدئة و أحيانا مضادة للاكتئاب و النتيجة نوم طويل.
أخذ الرجل يتلقى الصفعات في صمت و هدوء صناعي لا مثيل له بين البشر, كان وجهه كقطعة ملساء من الشمع كان ينظر في عينيها ليجدها تشع بسعادة غامرة و هي تنهره و تهينه, كان يشعر بأن روحها ترقص طربا بهذا العبد الذي اشترته بلا ثمن أو بمعنى آخر هو الذي يدفع الثمن.
كان الطبيب الطيب يضع لمريضه المنهار أهدافا صغيرة كانت تعينه هي عليها و كانت عيناها تلمعان بذلك الإحساس بالقوة كما يأخذ الكبير طفلا صغيرا ليعبر به الشارع و كانت أكبر الأهداف و أعظمها هي التوجه للنادي.
الرجل يحاول الاستعانة بعقله فلا يعينه فهو يرقد في غيبوبة من النوم فإذا استيقظ فهو في غيبوبة من التبلد و الطبيب يؤكد له أن زوجته هي امرأة فاضلة بكل المقاييس و أنه مريض و يجب أن يستمر في تعاطي العلاج و أن كل ما يشعر به إما من المرض أو من الآثار السلبية للدواء و ينهي المقابلة بابتسامة حانية طيبة, سريعا دائما ..... فالوقت لا يسمح.
في ومضة من ومضات العقل بين المرض و آثار الدواء السلبية إذا أنا غير موجود.
هكذا إذا .... بذلك الشعور الغريب ينظر الرجل إلى نفسه فيكتشف أنه غير موجود أصلا فلقد حوله الطبيب الطيب إلى كتلة هلامية من الأعراض و الأعراض الجانبية لا أكثر .
يثور الرجل على طبيبه ثورة ثورة باردة متبلدة و لكن بها الكثير من الأنين و يحاول تغيير الطبيب فيقف أبويه حائلا دون ذلك مدعين أنهما يعلمان بعلمهما الواسع و خبراتهما الطويلة أنه ليس في الإمكان أكثر من ذلك بالنسبة له, فكر الرجل كيف يثق بأناس يحكمون عليه بالموت حيا شاهرين في وجهه لافتات العلم و الخبرة كي يقهروا إرادته المقهورة أصلا.
وافقته الفتاة على تغيير الطبيب فقد كان من الواضح عمليا بالنسبة لها أن تغيير الطبيب لن يقدم كثيرا أو يؤخر.
هكذا إذا ........ يلعب القدر من ناحية و الخبرة و الثقافة من ناحية أخرى دورا في اختيار الرجل للطبيب الجديد, فقد اكتوى بالعقاقير من ناحية و كانت قراءاته التي لا تعلم عنها الفتاة شيئا تؤكد أنه (ليس بالدواء وحده يشفى المريض) و لكن توجد اتجاهات أخرى كثيرة مع الدواء كي تعين المريض مع الطبيب لبلوغ هدفهما معا.
جلسا أمام أحدهما الآخر عينان متبلدتان كسيرتان أمام عيني مقاتل جاد شرس, طيب طيبة حقيقية قوية فاعلة, تحدث معه و كان أحيانا يتصنع التشاغل عنه و لكن الرجل كان يعلم يقينا أنه يسمعه جيدا.
وضعا خطة العلاج معا فيما يشبه التعاقد ثم أردف الطبيب يفهم الرجل أن الشفاء مسئولية المريض ثم أضاف: و إن لم تشف ملعون ......... ......... هنا نظر الرجل إلى طبيبه و أطلق ضحكة قاسية قائلا: أحبك يا دكتور.
نظرت أم الرجل إليه زاجرة لتصرفه المشين و كان هذا بمثابة اعتذار للطبيب, لم تعلم الوالدة أن العبارتان و الضحكة كانتا العقد الحقيقي , لم تشعر بأن تلك الضحكة كانت تهز المكان و ترعبه بل و تربكه, ربما شعر الطبيب بذلك فلقد أدرك أحدهما الآخر حتى بدون كلام.
طلب الطبيب رؤيتها و تحقق الطلب, دهش الطبيب لفرط طيبتها و حنانها البالغ على الرجل, أخبره الطبيب أنها آية من آيات كتاب الله العزيز, لم يرد الرجل فقد كان بينهما أكثر من ذلك.
هكذا إذا.... يبدأ الرجل رحلة علاجه و لم يكن الطبيب متهاونا بل كان قاسيا و أحيانا مبالغا في قسوته و كان الرجل يتحمل في صبر و عناد , كان يقرأ في عيني طبيبه كلاما آخر ربما يكمل الذي قيل و ربما يناقده, كانت قناعته أن الطبيب يخفي أكثر مما يبدي و قد كان الرجل شغوفا أن يعلم عن ذلك المخفي.
اشتدت آلام الرجل البدنية و أصبحت لا تطاق و الرجل يتحمل في عناد وسط شفقة أهله و شماتة زوجته.
هكذا إذا .... يواجه الرجل طبيبه بأن آلامه قد زادت إلى حد اليأس و الطبيب يظهر اللامبالاه أو بالأحرى يتظاهر بها و الرجل يدرك عيني طبيبه جيدا.
يحددان أهدافهما معا , ينجزان معا , ينجحان معا, يحتفلان معا, و ينموان معا . تحول العلاج إلى بهجة حقيقية و إضافة لكل منهما.
تدريجيا تختفي الآلام و لكن تزداد الصعوبات فالرجل لم يعد طيبا تلك الطيبة الساذجة , كما أصبح مسئولا و هل كان غير ذلك؟ يبدو ذلك, مع زيادة الشعور بما حوله أو رؤيته لما حوله تعاود الآلام في الظهور يبدو أن رجلنا يريد أن يهرب من الرؤية الجديدة و يعاود الدخول إلى شرنقته مع طيبته و سلبيته تحميه آلامه إذا حاول أن يطل خارجها.
أغرب تحد من نوعه أن يتبادل المريض و طبيبه التحدي ثم يتحديان معا المرض و الألم .
كانت تلك العلاقة ثلاثية الأبعاد تنمو و تتعملق لتصنع عالما جديدا لذلك الرجل البائس حقا.
هكذا إذا ......... رأى الرجل الحقيقة كاملة أو هكذا تصور, امرأة تزدريه و لم تحبه يوما , أهذا فقط؟ بل أكثر, لقد رأى الرجل نفسه , راجع مشواره معها و قبلها, كم هو محبط ما فعل هذا الطبيب ,لعن نفسه و لعن الطبيب و لعن الغادة الهيفاء و لكن ......... لم يتنازل عما رآه , ربما كان التنازل أكثر راحة و أكثر أمنا و لكن أبدا لم يستطع ذلك , لقد زرعا معا التحدي و العناد , لقد بدءا الحرب و لا يستطيعان التوقف.
هكذا إذا...... يحاول الرجل أن يترك تلك الغادة لحالها و الطبيب يرفض و يصر أن يبقى معها , الرجل يذعن على مضض و يحاول أن يقنع الطبيب بما تستعمله معه من ألوان الحيل و الخبث و الطبيب يزداد تعنتا المرة تلو المرة .
لم يجد الرجل أمامه سوى أن يسجل المواقف على الورق كنوع من الوثائق الدامغة على أفعال الغادة التي مازالت جميلة هادئة رزينة أمام الآخرين, كلما قابلها الطبيب أكد على سماحتها و رشدها و الرجل ما زال يحارب على الورق, يأخذ الطبيب الأوراق في كل مرة و يضعها جانبا ثم يطلب منه أن يخبره بما فيها , ينجح الرجل حينا و يفشل أحيانا و في كل مرة يضع الطبيب الورق أمامه في القمامة, و في النهاية يتخلى عن الورق .
تصرف الرجل بطريقة غريبة لقد كان يحضر الورق فارغا و يضعه أمام عينيه كأنه يقرؤه ثم يلقي به إلى القمامة وسط ابتسامات الغادة الساخرة و نظراتها اللاذعة و لكن ... أصبح يبادلها نظراتها بنظرة متحدية .
التصق الرجل بطبيبه يتعلم منه الحياة و الثقافة و الفلسفة و ذلك خارج نطاق العيادة و أصبح يتبعه في ندواته و نشراته و أصبح قارئا له فهذا الطبيب - من حسن حظ الرجل - صاحب فلسفة و نظرة و تفسير أيضا و لكن ..... يبدو أن الرجل و طبيبه يتطابقان بشكل أو بآخر.
الآن تطول النظرة بينهما و يقل الكلام و كأنهما يقرآن أعين أحدهما الآخر و يتبادلان شيئا ما يدركانه بلا حاجة للكلمات أصلا.
تغير الرجل ...... نعم تغير الرجل, لم يعد يلقي بالأوراق الفارغة إلى القمامة , أصبح يداور غادته و يحاورها و يناورمعها , أصبحت الذاكرة ضد الذاكرة و المنطق ضد المنطق, أصبح ينصب لها الفخ تلو الفخ لتقع بسذاجة شديدة, حقا إنها لا تعترف و لكنه كان يقرأ عينيها و يبتسم .أصبح الرجل مصدر إزعاج للغادة حتى أنها واجهته بأنه قد أصبح خبيثا و عميقا, كانت كلماتها تطريه من داخله دون أن يظهر ذلك.
هكذا إذا ........ ينطلق لسان الرجل فلا تسكته الغادة بل يسكتها هو و يوجه لها النقد و لكنه نقد يصيب عظامها لا لحمها فقط , أصبح الرجل قاسيا أحيانا قسوة في موضعها , سمحا أحيانا سماحة في موضعها متساهلا كثيرا لكن دون تفريط , أصبح الرجل يطالب بحقه و تسأله الغادة ساخرة : و أين كان حقك من زمن؟ فيدمغها بكلمة:( أريد حقي الآن) تعلم الرجل (أن ما يحدث الآن يمكن أن يحدث في كل آن).
لكن الماضي أصبح ماثلا أمامه يؤرقه و يعذبه و لم تنفع معه حكمة (أن الماضي قد ولى و لا يعود).
بدأ الرجل و طبيبه موقعة أخرى خرجا منها بتجربة أن الماضي تتضاءل أهميته مقارنة بالحاضر يخبو و يخفت و لا يموت و ما أهمية الماضي أمام الحاضر الذي امتلأ بزخم الماضي و شمس الحاضر فأصبح أكثر تلألؤا و بريقا و صار الماضي باهتا هزيلا.
هكذا إذا ....... تفقد غادتنا سلاح الماضي أيضا و لا يبقى لها إلا السعار.
ما أخبث هذا الطبيب الذي نقل ميدان المعركة من الورق إلى الحياة و المعركة ليست معركة رجل مع امرأة و لكن الحقيقة أنها معركة الرجل مع نفسه و أحيانا مع طبيبه يتواجهان مرة و ينضمان إلى نفس الصف مرة.
يطلب الطبيب من مريضه أن يقترب من غادته الهيفاء في محاولة بناء العلاقة من جديد, كانت معركة كبيرة , كان كفاحا و نضالا و صبرا و ألما و لكن الغادة لا تريد أن تقترب فاقترابه يزعجها أكثر مما يزعجه ,تريد ان تحتفظ بالمسافة بعيدة إلى أقصى ما تستطيع فاقتراب الرجل كان يهددها فذلك الكيان الهش لا يحتمل اقترابه أدرك الرجل في تلك اللحظة مدى ثقله لا قيمته فقد أصبح ثقيلا عليها بدرجة لا تستطيع تحملها,أصبح مجرد وجوده معها في المنزل مصدر تهديد مستمر و انعدام لكل ما هو ثقة و كل ما هو أمان.
أدرك الرجل انه يعيش مع قنفذاء لا تأمن إلا لأفراد عشيرتها اما إذا اقترب آخر فإنها تتحول إلى كرة من الأشواك تجرحه فتجبره على الابتعاد و أدرك أيضا أن أشواكها هو جلدها إذا نزع عنها ماتت.
أدرك الرجل أن الغادة الجميلة قد تصلب داخلها من زمن بعيد فلا يدخلها شئ أو يخرج منها.
هكذا إذا ...... أصبح الرجل جاهزا أن يقترب و يقترب منه , اللعنة على هذا الطبيب إن الرجل يخرج من ورطة ليدخله الطبيب ورطة أخرى و رغم أن الطبيب كان يجبره على مواصلة الاقتراب من الغادة إلا أن عينيه كانتا تقولان شيئا آخر إذ قرأ الرجل:(أنا مطمئن عليك هيا افعلها و ابدأ من جديد), كان الرجل يتمزق بين ما يفعله الطبيب و بين ما يقرؤه في عينيه و كثيرا ما يسأل نفسه أيهما أصح ما يقوله ام ما يوحيه و أخيرا ومض ذهن الرجل , المشكلة الحقيقية ليست في اقترابه من غادته , المشكلة في اقترابه من نفسه , المشكلة الحقيقية في بداية حقيقية جديدة مع الكون كله بما فيه الغادة , الغادة هي جزء صغير من كون فسيح , المطلوب بداية جديدة مع الكون, المطلوب أن تقترب من نفسك فتتحملها ثم تبتعد قليلا فتراها ثم تقترب من آخر فتتحمله ثم تبتعد قليلا فتراه في داخلك و في الكون كله.
هكذا إذا ......... في ومضة من الذهن يجوز من الروح يعيد الرجل علاقته بالكون كله بل و بالله سبحانه و تعالى و يجزم للطبيب بأنه يحتوي الكون كله بداخله فيبتسم الطبيب و يخبره أنه لن يحتاجه لفترات طويلة و أنه الآن مطمئن عليه.
فيرد الرجل: و أنا أيضا مطمئن عليك.
أصبح الرجل في علاقة ما بكل ما هو حوله و يكون للشئ الواحد أكثر من جانب, يرى الجمال في كل شئ حتى في القبح و يرى طاقة غادته التدميريه التي لا يستطيع استيعابها أو تحويلها لشئ آخر, يراها يوما بعد يوم تفضح داخلها و لسان حالها يقول: (الآن و قد عرفت كل شئ هيا افعلها إن كانت لديك الشجاعة).
كان الرجل ينظر إليها ببرود و شئ من الشفقة و يمد يد المساعدة فلا تقبلها, يسأل الرجل نفسه أين العاطفة القديمة؟ أين الحب الذي كان؟ هل كنت أعرف الحب في الأساس؟ هل أحسسته تجاه نفسي أو تجاه آخر؟
رغم إحباطات الرجل لم تعاوده الآلام , لم يكن محتاجا لألم يحميه مما رأى إذ يكفي جدا ألم ما رأى, يبدو أنه اعتاد أن يتحمل كل أنواع الألم بقبول فائق و بلا استسلام في آن .
تأتيه الغادة و تطلب منه الطلاق بعينين زجاجيتين لا حياة فيهما و نظرة من شماتة, يظهر الرجل عدم الدهشة بل و ابتسامة رضى و يخبرها بإخلاص أنه لا مكان لها في حياته الجديدة , تتحول الغادة إلى الصدمة و تسأل عن امرأة أخرى في حياته فيخبرها أن الحكاية بدأت من شهور مضت عندما أصبح جاهزا للاقتراب و الرؤية , اقتربت منه امرأة أخرى و اقترب منها.
أخبرها أنها أقل منها جمالا و لكنها تحمل معان إنسانية كبيرة, تحمل بحث الإنسان عن الاكتمال و شقائه و تحمله في سبيل بحثه عن الأمان, تحتاج رجلا و تحتاج أن يحتاجها رجل, تسبه الغادة فلا يرد, تحقره فينظر إليها كالجماد و لكنه من داخله ليس كالجماد, تكشف عن كل قبحها و كيف تحملته كل هذه السنين و هي لا تحبه و استعملته كقطعة غيار لا أكثر, كواجهة, كإطار تزين به حياتها, اخبرها الرجل أنه كان يعلم من داخله و أنه لم يفاجأ, يزيد اشتعالها يبدو أن هذا الموقف لم يخطر ببالها و لو خيالا فأين ذهب حبه و غرامه الذي كانت تتقبله من أعلى و هو ساجد في محرابها؟
وصفته بالكفر لأنه كفر بنعمة الله عليه و أخبرها أنه كفر بها هي و ليس بأنعم الله , أخبرها أن الإله عادل و هي ظالمة, و الإله محب و هي كارهة, و الإله رحيم و هي قاسية ثم غادر في هدوء و تركها لسعارها.
هكذا إذا ..... يخرج الرجل مهزوما منتصرا, فرحا مكتئبا, سعيدا حزينا, يمر بعينيه شريط طويل من الذكريات, يقف عند كل موقف كان المفترض فيه بأي رجل أن يخرج و لا يعود, يسأل نفسه لماذا أجل نفسه هكذا؟ أكان يحبها لدرجة إلغاء ذاته؟ أم ألجمه الخوف ؟ أكان خوفا أم رعبا؟ مم كان الرعب؟
من مسئولية و تبعات ما سيحدث ؟ أم خوف من التغيير, من الحركة؟ .
ماذا تعلم خلال الرحلة؟
عندما كان يمزح مع أصدقائه يخبرهم أنها (كانت شكة دبوس)
أكانت كذلك؟
إهداء: إلى من أقرؤها خلف السطور.