كان أخي دائم الشكوى أن أبي أسماه ضياء و يعتقد أن أبي أراد أن يلغيه منذ ولادته بأن أعطاه اسما معنويا و رغم أن اسمي نور لم أشعر بذلك مثله, أبي رجل عصامي بنى نفسه من الصفر أو قرب الصفر و أنشأ لنا عزبة كبيرة من مئات الأفدنة و كان محبا للخيول البرية فبنى مزرعة للخيول و كنت أتساءل ماذا يفعل أبي بها فإنه لا يروضها و يبيعها فيتكسب منها و لا يكف عن تربيتها و لكنه يربيها و يرعاها و يطعمها للاشئ اللهم إلا لمزاجه الخاص حتى تكاثرت و زاد عددها, لم يعطنا أبي الفرصة لكي نفهم , و هل كنا نفهم لو أعطانا الفرصة؟ كلنا نعلم أن ضياء غبي أو يستسهل الغباء أما أنا فقد نفضت يدي من كل شئ و تفرغت لتجارتي التي تربو يوما بعد يوم , أما ضياء فقد تفرغ لمنازعة أبي و تقليصه يوما بعد يوم , أنظر في عيني أبي يوم أن بنى له ضياء استراحة في حديقة منزلنا و أقنعه أن يقيم فيها كي لا يزعجه أحد أثناء العبادة فأجد ابتسامة أبي الفاترة تنم عن أن أبي يفهم ما يفعله ضياء بل لا أبالغ أن أقول أنه يقرأ أفكاره حتى قبل أن يشرع في تنفيذها و لكنه لا يمانع و ضياء يفهم أن أبي يفهمه و لكنه ينفذ بالدم البارد و الوجه الكالح دونما أي خجل أو تردد, يراهن أن الرجل قد وهن و أنه في عنفوان شبابه, طالما ظننت أن أبي يخدعه خدعة ماكرة و لكن الأمور تسير فعلا لصالح ضياء و الذي بدأ في التضييق على رجال أبي المخلصين إلى أن بدؤوا فعلا في التخلي عن العزبة و المزرعة و أتى ضياء ببطانته و التي تصفق له و تمتدح عبقريته و كلما أظهرت البطانة عداءها لأبي كلما كانوا من المقربين , استطاع ضياء أن يستقطب صدّيق خادم أبي و أن يحوله إلى خادم شخصي له , معذور صدّيق لقد أبرم حسبته على المدى البعيد فعلم أن المستقبل هو ضياء و ليس أبي , كان ضياء يسعد كلما استقطب أحد رجال أبي و عندما يترك أحدهم العمل يرجوه ألا يفعل أملا أن يستقطبه في يوم ما فإن فشل يصبح في أتعس حالاته أما إن نجح فيصبح يوم السعد عليه و على حاشيته , مسكين الإنسان خلق ضعيفا و يصبح أكثر ضعفا أمام لقمة العيش فسبحان المعز المذل , حاول ضياء مع درويش خادم أبي المخلص فلم يفلح و أخذ يضيق عليه و درويش يقاوم في صلابة عنيدة متحدية يبدو أنه اكتسبها من أبي بطول المعشر. كان الغل يفلت من عيني ضياء انفلاتا كلما رأى درويشا و كان الثاني يقف أمامه شامخا جسورا غير عابئ لا بضياء و لا بقوته و سطوته التي تزداد يوما بعد يوم و لا ببطانته من المصفقين المنافقين الخونة القتلة إذ يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم يقتلون الرجل حيا و يتضامنون في مؤامرتهم القذرة أما أنا فأقف منهم موقف المتفرج و المراقب و لا أستطيع أن أواجه ضياء و لا أعوانه هذا قراري و أنا ملتزم به منذ أمد بعيد ...... بعيد جدا و غير مستعد لتغييره تحت أي ظرف. لطالما أكبرت درويشا على موقفه و الذي يشعرني بنذالتي و خستي فلم لا أغير قراري و أحق الحق و لو قليلا و لكن رغم معرفتي بالحق يبدو أن الباطل أسهل و أجمل و ألذ.
...........................
يوم أن مات أبي وقف درويش شامخا إلى جوارنا يتلقى العزاء و حاول ضياء أن يكلفه ببعض الأعمال الوضيعة و أبى الرجل أن يترك مكانه و أحسست أنه الأجدر بتلقي العزاء منا نحن الاثنين , كنت أنظر في عينيه فلا أرى أثرا لدمعة و لا لمظهر حزن , بدا لي كالجبل العتيد , حاولت أن أستدرجه للحزن فأجاب : أتريد أن ترى أباك الآن. قلت ساخرا: نعم. قال: انظر إلى خيوله البرية. بعد العزاء ذهبت إلى منزل ضياء فوجدته يرفل في جلبابه الأبيض و أمامه زجاجة الخمر و زوجته في كامل زينتها فعلمت أنه يحتفل الليلة , سألته: أنت لا تشرب الخمر. أجابني: الليلة عارضة لن تتكرر , اليوم خمر و غدا أمر. قلت: ما أنت فاعله يا امرؤ القيس . قال: سأقلب الأرض من أرض زراعية إلى جنائن فاكهة و مع إكثار الكيماويات و الهرمونات و المبيدات ستأتي أكلها ضعفين. قلت: لم يكن أبوك ليفعل ذلك. قال: لقد انتهى أبي و انتهى عصره الآن عصر الثمار و من لا يناديني بضياء بك سيتم فصله من العمل فورا. قلت: لقد لعبت الخمر برأسك. قال: أنا واع تماما لما أقول , لقد حسبت حساباتي منذ زمن بعيد و قمت بتنفيذها واحدة تلو الأخرى , و بالمناسبة سأذبح الخيول و أدفنها في خندق جماعي. قلت: و لكنها ثروة عظيمة . أجابني و قد ثقل لسانه : هراء ... سأعوضك بأي مبالغ تطلبها. قلت : المهم أن يصلني حقي و لن أعارضك. قال جازما: سيصلك أكثر من حقك. في الصباح لم نجد حصانا واحدا من خيول أبي البرية كما اختفي درويش و لم نعثر له على أثر, حاول ضياء بكل الوسائل العثور على أثر للخيول فلم يفلح , لاحقته عيون أهل القرية الشامتة و هو يبحث بجنون في كل مكان عن الخيول إلى أن يئس. أشاع أهل القرية أن الخيول تأتي إلى قبر أبي بعد غروب الشمس و تستمر تحوم حول القبر حتى مطلع الشمس , ذهبنا أنا و ضياء إلى القبر يحدوني حب الاستطلاع و يحدوه أن ينتصر على خيول أبي فلم نجد لها أثرا و عدنا و داخلي ابتسام و ارتياح و أنا أفكر في حيلة أبي الماكرة أما ضياء فكان منكس الرأس محاولا مداراة خيبته بغمغمات و سباب و سخرية من خزعبلات الفلاحين . كنا نسمع في الليل صهيلا للخيول يأتي من بعيد فتعودنا ذلك و لم نعد نعبأ بذلك أما ضياء فمازال ينتفض كلما سمع حصانا يصهل.
إلى أبي
الثلاثاء، 21 يوليو 2009
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)